الجمعة، 18 نوفمبر 2016

الصهيونية والتوضيف الديني



الآن يمكننا الانتقال الى السؤال ، وإن لم نكن في معرض المقارنة مع الصهيونية:
إذا كان الخطاب الصهيوني (من حيث توظيفه للدين) قد نجح في تضليل وكسب الجماعات اليهودية والمجتمعات الغربية لاكثر من قرن من الزمان، فهل إستطاع ردنا الديني، وهل يقوى، على مقارعة الخطاب الصهيوني؟

وهل تمكن هذا الخطاب من إدخال مشروع تحرير فلسطين الى الوعي العربي صاحب الارض والقضية، على غرار ما فعل الخطاب الصهيوني في وعي اليهودي المستوطن القادم من بولندا او روسيا، على سبيل المثال، في مطلع القرن المنصرم؟

هل توفرت لدينا آليات النضال وعوامل الانجاز (التنظيم السياسي والبرنامج السياسي والعملي والقيادة والرؤية والقدرة على إستخدام الاوضاع المحلية والاقليمية والدولي)؟ وهل بوسع الخطاب الديني ان يخلق الوعي العربي بالمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني وفهم مراميه ومخاطره فهماً مادياً وموضوعياً؟

وبالمحصلة، هل يستطيع الخطاب الديني ان يحرض الجماهير وينظم فعلها؟ 

لقد جاء خطابنا الديني في مجمله، (والعلماني في بعض الاحيان)، كرد فعل على الخطاب الصهيوني وغرق في إستنباط الآيات والاقوال القرآنية والانجيلية لدحض الخطاب اليهودي ـ الصهيوني. وبالرغم من الاهيمة البحثية لمثل هذه الشؤون الدينية، فاننا لا نبالغ إذا قلنا أن جلَّ ما قيل وكُتبَ في معرض هذا الدحض الديني وما شق طريقه الى وعي المواطن العربي (في مرحلة يكسوها إستدخال الهزيمة وهيمنة الفكر الغيبي)، 

لم يتجسد في فهم موضوعي للخطاب الصهيوني المعادي ولم يترجم الى آليات عملية نضالية لمكافحته والرد عليه، ولم يخرج عن آفاق الطروحات الدينية الميتافيزيقية الملقنة. لقد جاء هذا الرد في مجمله، كما أسلفنا، من قبيل السجال الديني والمحاججة واللاهوتية وإستخراج الاقتباسات والاستشهادات القرآنية والانجيلية. 

وكثيراً ما تم هذا السجال في فضاءِ مشحون بالتعصب الديني وخلط الاوراق والمفاهيم ومعاداة اليهودية والمسيحية أو اليهود والمسيحيين الغربيين كأتباع لهذا الديانات، بدلاً من ادارة الصراع مع القوى والمشاريع والمخططات الاقتصادية والسياسية الراسمالية الغربية والصهيونية. 

رب قائل بان للدين والمحاججة الدينية دور فعال في مجتمعاتنا وفي التأثير على المواطن والرأي العام، وهو ما يجيز إستخدامهما كأدوات تثقيف للمواطنين وتوعيتهم وتحريضهم على النضال ضد العدو المحتل. ويتابع أصحاب هذه الحجة، إذا كان الصهاينة والغرب الراسمالي قد سخروا الدين في خدمة أهدافهم على مدى عقود من الزمن، فما الذي يعيب علينا ان نستخدم الادوات ذاتها؟

لا شك في ان إستخدام الدين، كعاملٍ وفاعلٍ واحدى مكونات الهوية الثقافية، يلعب دوراً هاماً وفعالاً في المجتمعات والتقليدية منها على وجه الخصوص، وفي عملية خلق وتكوين الوعي والوجدان، إلا انه لا يؤسس لمشروع تحرير وطني إبتلى بهذا المعسكر من الاعداء وبعوامل التعقيد والتعثر ما لم تواجهه حركة تحرير وطنية في التاريخ.

 كما ان توظيف الدين لا يؤسس لفهم موضوعي لطبيعة ومكونات الصراع القائم بين مشروعنا العربي (التحريري ـ النهضوي ـ التنموي) من جهة، والمشروع الراسمالي ـ الامبريالي ـ الصهيوني من جهة أخرى.

 إذ إننا نقف امام صراع يكاد يكون أزلياً، إحتدم على ارضنا لما ينوف على قرنين من الزمن، وكان من أهم عبره ودروسه أنه ليس صراعاً دينياً، وإن إتخذ لبوس الدين وإحتقن بالكثير من المظاهر والتجليات الدينية، بل هو مشروع هيمنة راسمالية ـ امبريالية يقع الاحتلال الصهيوني لفلسطين في القلب منه بهدف تجزئة الوطن العربي والهيمنة عليه، ومن هنا كانت الصهيونية وكيانها وليدة راس المال العالمي وأداة وظيفية في خدمته.

ما نريد ان نخلص اليه هو انه ما لم يتوفر لدينا الفهم الموضوعي للنبوءات التوراتية ولتوظيفاتها السياسية، فان ردنا الديني الداحض، ومجمل خطابنا الدعاوي والاعلامي، لن يعدو كونه جدلاً لاهوتياًً عقيماً لا طائل تحته. 

وفي هذا، فهو يخدم الدعاية الصهيونية ويغريها الى المزيد من إلهائنا وهدر جهودنا، ناهيك عن مخاطر الانزلاق في الصراع والتعصب الديني والتأسيس لاصولية دينية أضحت منفلته في مجتمعاتنا. لن يكتب لنا النصر في نضالنا العادل إذا قام هذا النضال على عكازات دينية دون التأسيس لوعي نقدي جذري وثوري. 

لذا نرى أن البحث في حقيقة الصهيونية وتعرية أكاذيبها والرد على النبوءات التوراتية، التي إستغلتها أفضل إستغلال، لا يتسنى بالرد الديني، بل يجب ان يتجه نحو فضح الصهيونية في مفاهيمها السياسية والاستعمارية والاستيطانية وتحالفها مع راس المال العالمي، وتجليسها بدقة في الثالوث المعادي: الراسمالية والامبريالية والصهيونية. اما الخرافات الدينية والتوراتية فيجب فهمها من خلال توظيفها لخدمة الاغراض السياسية للصهيونية والامبريالية الغربية.

ولعل المحك التاريخي الاكثر مصداقية يكمن في السؤال التالي: فماذا حقق الرد الديني حتى يومنا هذا وما هي إنجازاته؟ 
(2)
النبوءات التوراتية:
عقيدة "العودة" نموذجاً

"العودة": كذبة تفرخ مسلسلاً من الاكاذيب

الكذب والتزوير ضرورة وسمة أساسية ملازمة لكافة الايديولوجيات العنصرية والفاشية والاستعمارية، وخاصة الاستيطانية والصهيونية. والكذب في هذه الايديولوجيات يتعدى كونه مجرد وسيلة بل يصبح جزءً من طبيعتها وبنيتها، وهو لا يعني لوي عنق الحقيقة فحسب، بل إختلاق وفبركة الحقائق والوقائع وإبتداع المزاعم وتكرارها الى أن تتحول الى مسلمات. 

في البدء، كما يوافينا السرد الصهيوني، كان "شعب الله المختار"، ثم كان "المنفى" الذي ولّد حنين اليهود ورغبتهم الازلية في "العودة" الى فلسطين. كانت تلك اولى أكاذيب التلفيق والتزوير، التي إضحت إحدى المسلمات التي يكاد يصدقها العالم باسره، كما يصدق الاكاذيب التي تفرعت عنها. 

فطالما ان الله قد إختار اليهود ليكونوا "شعبه المختار"؛ فلا بد، ان يكون لهذا الشعب "بلداً"، فكان أن وعد الله هذا الشعب بالعودة الى وطنه ـ "أرض الميعاد" ـ والتي ستبقى بانتظاره. ويسهل بعد ذلك الاسترسال في مسلسل الاكاذيب لتتصب في غاية واحدة: إستدامة وتأبيد "الحلم الصهوني". 

ولم تتوقف الخرافات عند هذا الحد من "النبواءت" التوراتية بل تعدته الى بث التلفيقات التي ادعت ان اليهود سعوا خلال الاف السنين للعودة الى فلسطين. وفي أحشاء هذه الاكاذيب ولدت كذبة اخرى مؤداها انه بفضل الحلم اليهودي القديم والازلي في العودة فان حلم إنشاء الدولة اليهودية قديم أيضاً، وان الصهيونية ـ حاملة فكرة العودة وممثلة تلك الرغبة اليهودية، هي قديمة قدم التاريخ. 

هكذا، بايجاز شديد، توالت مشاهد الاكاذيب الصهيونية واحدة تلو الاخرى.

نشأة فكرة "العودة" في العقيدة اليهودية
التزامن بين العودة والصهيونية

يدعي المؤلفون والمؤرخون الصهاينة انه من أجل فهم "العودة" (التي جاءت الصهيونية لتعبر عنها) ينبغي الرجوع الى قديم التاريخ، الى القرن الثامن ق. م. حين سقطت اسرائيل امام هجوم قوات الملك الاشوري سرجون الثاني، في حين يذهب بعضهم الى ان "العودة" رأت النور في مرحلة سبي اليهود بعد هدم الهيكل من قبل نبوخذنصر أي في القرن السادس قبل الميلاد.

 ومهما تنوعت الاجتهادات، فليس لهذه الاكذوبة سوى غاية واحدة: عقد التزامن والتطابق بين "فكرة العودة" من جهة، والصهيونية من جهة ثانية، من حيث ان هذه الاخيرة جسدت فكرة ومشروع عودة اليهود الى ارضهم الموعودة، فلسطين. وعلى الرغم من سخافة هذا الافتراض، إلا انه نجح في تكريس وتصديق الزعم القائل بقدم رغبة اليهود في العودة الى فلسطين وولادة الصهيونية كفكرة تجسد هذه الرغبة.

 بعبارة اخرى، فان ما يريد ان يؤكده لنا السرد الصهيوني هو تزامن نشوء "العودة" و"الصهيونية" عبر التاريخ، وهو ما يؤسس لإبتداع "تاريخ يهودي في النضال نحو تحقيق الحلم". والادلة على هذا الابتداع كثيرة عبر تاريخ الصهيونية، نورد فيما يلي بعضاَ منها:

□ يقول ناحوم سوكولوف: "إنها حقيقة بسيطة.... بدأ تاريخ اسرائيل بالصهيونية. ويبين هذا التاريخ في الازمنة السحيقة طريق تحقيق الصهيونية... فالخروج من مصر كان مثلاً للجمع بين الهجرة والكولونيالية [أي أستعمار الارض ]... والعودة من بابل كانت حدثاً صهيونياً عظيماً". 

□ أما بن غوريون، فيقول يوم إعلانه تأسيس الكيان الصيوني، 15 أيار 1948، ما يسميه الاسرائيليون "اعلان الاستقلال": "لقد كانت ارض اسرائيل، اريتس اسرائيل، مسقط راس الشعب اليهودي. هنا صاغ اليهود هويتهم الروحية والدينية والسياسية.

 وهنا اقاموا دولتهم للمرة الاولى، وشكلوا القيم الثقافية ذات الاهمية الوطنية والانسانية ومنحوا العالم كتاب الكتب الازلي". ويتابع بن غوريون قائلا: "وعليه، فنحن اعضاء مجلس الشعب وممثلو اليهود في اريتس اسرائيل والحركة الصهيونية، الملتئيمن في هذا اليوم، يوم جلاء الانتداب البريطاني عن اريتس اسرائيل، واستنادا الى حقنا الطبيعي والتاريخي، وبموجب قرار الجمعية العامة للامم المتحدة، نعلن هنا تأسيس الدولة اليهودية في اريس اسرائيل لتعرف باسم دولة اسرائيل".

□ أما نتنياهو فيعود ليؤكد على المقولة اليهودية- الصهيونية، قائلا: "لكن حقنا بإقامة دولتنا هنا، في أرض إسرائيل، ينبع من الحقيقة البسيطة: هذا وطن الشعب اليهودي، وهنا تَشكَلّ وعيه". 

معنى "العودة" في العقيدة اليهودية

لم تكن "أرض الميعاد"، حسب المعتقدات الدينية اليهودية، تعني جغرافية فلسطين، بل كانت مفهوماً يعبر، من منظور تلك العقيدة، عن ارض لاهوتية إفتراضية لا جغرافية. وعليه، فان العودة في اليهودية لا تعني العودة الى فلسطين. ناهيك عن ان اليهود يؤمنون بان العودة الى "ارض الميعاد" ستتحقق عند "مجيء المسايا" (المسيح المخلص) وبمشيئة ربانية. 

صحيح أن الانبياء تحدثوا عن تجميع بقايا اليهود من شتى بقاع الارض، وادعوا بان الرب سيعيد شعبه الى أرضهم في جبل صهيون، إلا ان ذلك ارتبط عبر الاجيال بالمعنى الديني بقدوم المسيح وحلول الآخرة. إلا انه "بمرور الاجيال وإخفاق حسابات المتدينين لتحديد موعد "اليوم الآخر" ساد إقتناع الطوائف اليهودية ان معجزة قدوم المسيح المرتقب ستحل في موعدها بارادة الرب ولذلك فمن التطاول والتجديف السعي للاسراع بها، 

ولم يتخل المتدينون عن هذا الرأي وقاوموا الصهيونية حتى وقت متأخر جداً." وجدير بالذكر، في هذا المقام، ان الراب منشي بن اسرائيل الذي سافر الى إنجلترا في القرن السابع عشر ليسترحم حاكمها كرومويل كي يسمح باستيطان اليهود في تلك البلاد، كان يعلن ان على اليهود ان ينتشروا في اربعة أطراف المعمورة قبل ان يعيدهم الرب الاله الى "ارض الميعاد". 

وإعتماداً على تراث القرن التاسع عشر، لاحظ الباحثون "ان الوعد بقدوم المسيح إفترض ان لا يقوم اليهود باي عمل لاعادة سيادتهم (القومية)، فعليهم ان يواصلوا رسالتهم بين الامم على إعتبار ان الخلاص سيأتي من جرّاء تدخل إلهي". ويرى د. إميل توما ان التدقيق التاريخي يكشف "ان ترقب المسيح بين الطوائف اليهودية، الذي كان يقترن طبيعيا بالعودة الى صهيون، كان يشيع في اقطار عينية وفي تواريخ محددة (في سورية في القرنين السابع والثامن، وفي إسبانيا في القرن الحادي عشر).

في حين كانت الطائفة اليهودية في ذلك القطر أو ذاك وفي التاريخ المعين، تعيش في ظروف صعبة، تتوق الى الخلاص فتتشبث بالمسيحية [أي فكرة قدوم المسيح المخلص ـ م.ع.] وفكرة العودة الى صهيون". ويتابع توما: "ولكن هذه الفكرة كانت دينية ولذلك لم تتجسم تنظيمياً الا في حالات قليلة جداً وفي أقاليم عينية. وهكذا تجسمت في سورية تنظيماً في القرنين السابع والثامن، وكانت إشتياقاً دينياً شائعاً في إسبانيا في القرن الحادي عشر، وهذا الشكل التنظيمي لم يتجاوز بضع حالات إندثرت عبر القرون وإنتهت في القرن السابع عشر." 

أما المرحوم د. عبد الوهاب المسيري فيخلص الى انه رغم الاختلافات في وجهات النظر والتأويلات اليهودية والحاخامية لعقيدة العودة، "على وجه العموم، يمكن القول بان أعضاء الجماعات اليهودية قد قبلوا وجودهم في الاوطان التي كانوا يعيشون فيها، وان الحديث عن المنفى أصبح جزءً من الخطاب الديني، وأصبحت العودة تطلعاً دينياً وتعبيراً عن حب صهيون أي تعبيراً عن التعلق الديني بالارض المقدسة وهو تعلق ذو طبيعة مجازية، لا يترجم نفسه الى عودة حرفية الى فلسطين، حتى وان خلق إستعداداً كامناً لذلك". 

يتضح من هذا، وهو ما نود الاشارة اليه، الفرق بين الشوق والحنين الديني الى صهيون، من جهة والصهيونية كايديولوجية وحركة سياسية تسعى الى إقامة مستوطنة يهودية في فلسطين، من جهة ثانية. ولا يغير في الامر شيئاً ان الصهيونية السياسية إقتبست هذا الشوق او الحنين، بل يؤكد انها إستخدمت الدين اليهودي والنبوءات التوراتية في أغراضها السياسية وسخرتها في إبتداعها لفكرة "الشعب اليهودي" وعودته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق