بسم الله الرحمن الرحيم
"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا" صدق الله العظيم
لعلّ من نافلة القول أن نشير هنا إلى أن التراث الإنساني، بكل أنواعه، هو ملك للبشرية جمعاء، غير مرتبط بزمان أو مكان أو أمة، أو بظرف معين أو حادثة خاصة. ومن المؤكد أن أبرز صفة للتراث الإنساني هي ديمومته وحيويته، رغم تقادم السنين واختلاف العادات والتقاليد والمجتمعات. ومن هنا، ظل التراث الإنساني، بكل ما احتواه من آداب وفنون وعلوم وإنجازات، العلامة الأبرز والأنصع في التاريخ القديم والحديث، وهو أيضا- وهذا الأهم- الرابطة المشتركة التي تقرب البشر من بعضهم البعض، وتؤكد إنسانيتهم وتماثلَ مصائرهم رغم العديد من الاختلافات المرتبطة بالتاريخ أو الجغرافيا. ولكن، حتى وإن تعددت الاختلافات، فإنها لن تفسد إنسانية المرء، ولن تغير من حقيقة أن التراث الإنساني هو نتاج مشترك للبشر في كل مكان. ومن هذا المنطلق، نشأت فكرة تلاقح وتمازج الحضارات في العالم، وجرت العادة وتواصلت الجهود للعمل المشترك في كافة المجالات وصولا إلى نتائج تخدم الناس في كل مكان. ومن هذه الجهود، إسهامات الترجمة لنقل آداب الشعوب وتراثها الحضاري عبر لغات مختلفة، ليتسنى للناس التعرف عليها والاستفادة منها، وتطبيق الصالح منها وفقا للظروف الواقعية لكل أمة وكل بلد وكل زمان.
وما محاولتي هذه للكتابة عن كونفوشيوس(551- 479 ق.م) إلا مسعى متواضع لإبراز جوانب، ربما لم يتم التطرق إليها من قبل، وتعميمها بين القراء العرب، خدمة لهدف إنساني خالص لا يركز على التعريف بشخصية شهيرة جدا، غنية تماما عن التعريف التقليدي، ولكن لإلقاء مزيد من الضوء على جوانب قد تكون خافية، أو لم يتم التطرق إليها بشكل واسع من قبل. وليغفر لي القارئ العزيز زَلّتي إن أخطأت في تعبير، ولكن الذي أريد قوله هو إنني حريص – بدافع إنساني- على أن أتشاطر شيئا جديدا عرفته عن هذا الفيلسوف الحكيم الكبير، وأشعر بالسعادة والفخر لطرحه أمام القراء العرب.
كونفوشيوس ... فيلسوف الشرق الأول
قد يثير عنوان المقال شعورا بأن كونفوشيوس بعيد، ونسعى للتقرب إليه بشكل أو بآخر، أو أنه قريب ونحاول التقرب منه أكثر. وهذا النوع من الشعور صحيح في كلا الحالتين، وأعني كونفوشيوس القريب البعيد، أو القديم المُتجدّد. هذا الفيلسوف الكبير قريب في الذاكرة وعلى اللسان، لكنه غامض للكثيرين الذين يترددون في الاقتراب أكثر من فلسفته وتعاليمه على أساس أنها معقدة صعبة على الناس العاديين، ويفضلون الاستماع لتعاليمه مَشروحةً مُبَسّطةً جاهزة، لا أن يقتربوا منها بأنفسهم ويتعرفوا على حقيقتها ويلمسوها ويشعروا بدفئها، ذلك الدفء الذي يبعث الانشراح والطمأنينة في النفس مثل ينبوع ماء رقراق، أو نسيم خريفي عليل، ويثير في الوقت نفسه الإعجاب بشخصية إنسانية فذة شغلت الدنيا في حينها، وظلّت خالدة إلى يومنا هذا رغم مرور أكثر من ألفين ومائتي سنة.
الملايين يعرفون كونفوشيوس، اسما وفلسفة وتعاليم وطقوسا، ولكن إلى أي مدى يعرفون حقيقة أقواله وسلوكياته التي جعلته بهذه المنزلة الكبيرة، بحيث قال تشاو بو، أول رئيس وزراء في إمبراطورية سونغ التاريخية الصينية، إنه يستطيع إدارة العالم(المعروف آنذاك) بنصف تعاليم كونفوشيوس!. وهذا دليل على الأهمية والتأثير البالغين لتلك التعاليم في ذلك الزمن. أما أهميتها في يومنا هذا، فسنحاول قدر الإمكان إبرازها في هذا المقال عبر حِكَم أو عبارات مُنتقاة من أقواله وأقوال تلامذته في مناسبات عديدة مختلفة.
لقد عرفت كونفوشيوس منذ فترة طويلة لكوني درستُ في كلية إنسانية ببغداد، فيها قسم للفلسفة، حيث درس العديد من أصدقائي الذين كانوا يذكرون اسمه في مناسبات كثيرة، الأمر الذي أثار في نفسي الرغبة للتقرب أكثر من الفلسفة عامة ومنه خاصة. ولكن، للأسف ظلت معرفتي شبه اسمية فقط. وسبب تلك المعرفة السطحية هو أننا كنا نرى الفلسفة فعلا مُعقدة وواسعة وغيبية، إضافة إلى خلو مكتباتنا، آنذاك وربما حتى اليوم، من ترجمة صادقة لتعاليم هذا الفيلسوف. . . بقلم
الشيخ فلاح الجربا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق